الإحسان أعلى مراتب الدين، وهو روحه وكماله، ومما جاءت به كل الرسالات الإلهية، وهو خُلُق عظيم، وسمة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وصفة تحلّى بها الصالحون، وهو أمر من صميم الدين، وقيمة كبرى من القيم التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان لينفع نفسه، ومجتمعه، والخليقة جمعاء، ومن شرفه أن الله تعالى مُحسِن يحب الإحسان.
والإحسان ضد الإساءة، ويعني الإتقان، والإتيان بالمطلوب على وجه حسن وجميل، وبذل المعروف وما في الوسع من قول أو فعل أو مال أو جاه مما فيه نفع وخير للبلاد والعباد.
وللإحسان منزلة عظيمة، فهو فوق منزلة العدل؛ لأنَّ العدل أنْ يأخذ الإنسان مالَه ويعطي ما عليه، في حين أن الإحسان أنْ يُعطي أكثر مما عليه، وإذا كان تحري العدل من الواجبات فإنَّ تحري الإحسان ندب وتطوع، وكلاهما مأمور به في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (سورة النحل:90).
وقد برزت أهمية الإحسان عندما جاء جبريل عليه السلام وجلس إلى النبي r وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان؛ فقال r عن الإحسان في الحديث الصحيح الذي رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وقد استخدمت التربية الإسلامية مجموعة من الأساليب لتأصيل قيمة الإحسان لدى المسلمين؛ من بينها: الأمر المباشر، والقدوة من النبيr الذي ترجم الإحسان في حياته وجميع تعاملاته، وعاش يؤصِّله في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم بالقول والفعل حتى تحول الإحسان إلى محرك قوي بقي بعدهr يدفع المسلمين إلى العمل والإنجاز؛ فكان القوة التي أسس بها المسلمون حضارتهم العريقة. وكذلك استخدمت التربية الإسلامية لتأصيل قيمة الإحسان أسلوب الحوار، والقصة، والوعد الصادق بحسن الجزاء... إلى غير ذلك ن أساليب.
ويكفي للدلالة على أهمية الإحسان كثرة تكرار هذه الكلمة ومشتقاتها في أعظم مصدر للتربية الإسلامية وهو القرآن الكريم؛ فقد تكررت مادة "حسن" في القرآن بجميع تصريفاتها فيما يقرب من (مائة وتسعين) موضعًا، ولم تَقِل عناية السنة النبوية بالحديث عن الإحسان؛ فزيادة على تخلُّق النبي r بأخلاق المحسنين التي بيَّنها القرآن في مواضع متفرقة؛ فقد رُوِيت عنه عدة أحاديث تحث على التحلِّي بهذه الفضيلة الطيبة، والقيمة العظيمة.
وللإحسان أنواع كثيرة؛ كالإحسان مع الخالق سبحانه وتعالى وهو أرفع أنواع الإحسان وأعظمه، وإحسان المرء إلى نفسه، والإحسان للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران، والإحسان إلى الأطفال ورحمتهم والعطف عليهم، والإحسان في مخاطبة الآخرين باختيار أحسن الكلام، والإحسان للمسيء بالعفو عنه، والإحسان في التعامل مع غير المسلمين، والإحسان إلى الحيوان والنبات والجماد، والإحسان في العمل والتعاملات التجارية والمالية... الخ.
وللإحسان فوائد كثيرة؛ منها أن المحسن يكون في معيَّة الله تعالى وهدايته وتأييده ونصره وكفى بذلك شرفًا؛ فمن كان الله معه فإنَّه لايخاف بأساً ولا رهقاً؛ قال تعالى:﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾(سورة النحل: 128)، وقال تعالى:﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة العنكبوت: 69)، والمحسن ينال محبة الله تعالى ورضاه، ومن محبة الله سينال محبة الناس؛ قال تعالى:﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة البقرة: 195)، كما أن المحسن قريب من رحمة الله قال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة الأعراف:56)، والإحسان من أسباب حصول البركة في العمر والمال والأهل، ووسيلة من وسائل الإنجاز والرقي والتقدم الحضاري، وسبيل لانتشار السلام والمحبة، والشعور بالراحة والطمأنينة والسعادة، وإزالة ما في النفوس من الكدر وسوء الفهم وسوء الظن، وطريق لإطفاء نار الفتن وأسباب الصراع؛ قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (سورة فصلت: 34)، وثمرة الإحسان تعود على صاحبها؛ قال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾(سورة الإسراء: 7)، وقد وعد الله تعالى المحسنين بحسنة الدنيا والآخرة؛ فقال في كتابه الكريم: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ (سورة النحل:30)، وفي يوم القيامة وعدهم بالفوز بجنته وبأرفع النعيم؛ فقال في كتابه الكريم: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ (سورة يونس: 26) والزيادة هي لذة النظر إلى وجه الله تعالى فيحصل المحسنون بذلك على مجدي الدنيا والآخرة.
ونظراً لما يشهده العالم أجمع في الآونة الأخيرة من تغيرات وتطورات متسارعة في كافة المجالات ومختلف العلاقات؛ عليه ارتأيت أن أقف عند هذه القيمة العظيمة التي تُعد من أولويات العمل التربوي؛ ذلك أن غاية التربية الإسلامية هي غرس مثل هذه القيم الكريمة، والأنظمة المُوجِّه، والمعايير الضابطة، والدوافع المحركة للسلوك في نفوس الأفراد والجماعات، وجعلها في مقدمة الأهداف حتى تكون أسلوب حياة.