تتنوع مكونات المرجعية الإسلامية بالنظر إلى مصادرها وتطبيقاتها إلى مكونات ثابتة تشكل كنهها وصلبها وجوهرها ، وتتجلى في أسسها ومقاصدها وقيمها الجامعة ، والمتغيرات التي تدل على مرونتها وقدرتها على استيعاب التحولات والمستجدات والتفاعل معها ، ويشكل الوعي بهذا البعد المنهجي مدخلا رئيسا لترسيخ قيم الحوار وحسن تدبير الاختلاف ، ويمكننا تحديد هذه المكونات وقواعد التفاعل معها فيما يلي:
• مكون القيم
وهو مكون مركزي في أي مرجعية من المرجعيات، ويشكل جسرها الممتد لبناء المشترك الإنساني مع المختلفين من المرجعيات الأخرى ، لأن منظومة القيم التي تضمن كرامة الإنسان وقيامه بمهامه في إعمار الأرض كقيم الحرية والعدل والأمانة والصدق هي محل اتفاق العقلاء والكل يرفض ما يناقضها ، وحين يختلفون فيها فإنما يختلفون في مفهومها وممارستها تبعا لاختلاف مرجعياتهم العقدية والفكرية وتجاربهم الحضارية ، وعليه فالخلاف لا يكمن في النظر إلى القيم في بعدها الكوني فكل القيم كونية بلا خلاف ، إذ الحرية والعدل والمساواة والكرامة والإنصاف وغيرها لا يمكن أن تكون إلا مطلبا كونيا لكل إنسان مهما اختلف لونه أو عرقه أو مذهبه أو دينه ، لكن المرجعية والخصوصيات الحضارية لكل أمة ومجتمع تجد نفسها حاضرة بقوة في تحديد مفهوم القيمة وليس في اعتمادها وتبنيها ، فالحرية مثلا قيمة كونية بلا خلاف لكنها تتداول في الخطاب بمفاهيم مختلفة اعتبارا لاختلاف المرجعية المؤطرة لهذا الخطاب،
ومن هنا يبدو أن حضور المرجعية مركزي في بناء منظومة القيم، دون أن يتناقض ذلك مع الطبيعة الكونية لهذه القيم ، فالمرجعية تقر بالقيمة من حيث المبدأ وهذا محل اتفاق ، ثم تحدد مفهومها ومن ثم طرق ممارستها وهذا محل اختلاف، ثم يكون الحوار مركزا على بيان قدرة كل مرجعية على ترسيخ هذه القيم الكونية الجامعة في المجتمع من خلال تماسك رؤيتها النظرية وممارستها العملية التطبيقية ، ومن هنا تحث المرجعية الإسلامية على البحث في مختلف المرجعيات عن القواسم المشتركة ( الكلمة السواء) ، استرشادا بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في موقفه من حلف الفضول،
• مكون المعتقدات والتشريعات
وهو المجال الذي يشكل خصوصية كل مرجعية ومجال تمايزها عن غيرها، والتي لا تشترك فيه بالضرورة مع غيرها من المرجعيات ، وهو في المرجعية الإسلامية مجال العقائد والأحكام ، ويكون الجدال والإقناع بالحجة والبرهان المفضي في الختام إما إلى حسم الخلاف في اتجاه انزياح أحد الطرفين عن موقعه والاقتناع بالمنظومة الاعتقادية والتعبدية للآخر مما يعكس الحركية الدائمة لرواد ومنتسبي هذه القناعات ، وإما إلى الاتفاق على احترام كل من الطرفين لمعتقدات الآخر وشرائعه وأحكامه في الحد الأدنى مع استمرار الحوار وعدم غلق أبوابه ،ويعود السبب في ذلك إلى كون الخيارات العقدية تستند عند أصحابها إلى قناعات مبنية على قطعيات ومسلمات ، فيكون الهدف من تدبير الاختلاف في هذا المجال هو في حده الأدنى تكريس مبدأ احترام الاختيارات العقدية وحرية ممارستها، وتجنب كل أشكال تسفيهها والنيل منها على سبيل الاستفزاز ، خارج الإطار الفكري والعلمي الحجاجي الذي يستهدف الوصول إلى الحق واتباعه . قال تعالى " وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "
• مكون الإرث التاريخي والحضاري الاجتهادي
وهو مجال التجربة والممارسة الميدانية والتراكمات المرصدة في كل التجارب الحضارية على مر التاريخ ، وهو مجال الصواب والخطأ والتوفيق والإخفاق والتقويم والمراجعة ، وبذلك يكون مجالا للحوار بامتياز، ذلك أن مساحة التوافق والتماس ضالة الحكمة فيه واسعة ، وهو مجال مفتوح لكل أشكال التحليل والنقد والقبول والرد ، إذ أن التجارب البشرية هي تجارب تقترب أو تبتعد من الصواب ، ولا يمكن الاستناد إليها لمحاكمة المرجعية النظرية للدين أو المعتقد في أصله إلا بقدر بيان مدى قدرة الناس على تمثل هذه المرجعية ، فلا يمكن مثلا القول بأن الإسلام يدعو إلى الظلم لأن عصرا معينا من التاريخ الإسلامي ساد فيه الظلم على مستوى الممارسة ، فهذا خلط واضح بين المرجعية الاعتقادية النظرية والتطبيق التاريخي الذي قد يبتعد أو يقترب منها ، ومن هنا كان انتقاد سلوك معين في لحظة تاريخية معينة مباحا ومطلوبا دون أن يعني ذلك بالضرورة انتقاد أصول ومبادئ المرجعية الأصلية التي تعتبر معايير للحكم في حد ذاته،
ويترتب عن هذا التمييز المنهجي في المرجعية الإسلامية وخصائصها بين القيم، والمعتقدات ، والتاريخ ، ضرورة تحرير محل الخلاف ومساحة النقاش في كل محطة من محطات الحوار حتى لا يقع الخلط في الموضوع فتضيع الجهود ، وحتى يتم تحديد المنهجية المعتمدة في الحوار وحدود الأخذ والرد والمساحات المتاحة لتدبير الاختلاف، لأن كل خلط بين هذه المكونات يكون سببا في فشل العديد من المناظرات والحوارات نظرا للخلط الذي يكتنفها بسبب عدم تحرير محل الخلاف ، وحيث إن المجالات الثلاثة التي حددناها تتطلب بالضرورة آليات متمايزة في الحوار بحسب كل مجال وكذا بحسب الهدف والمآل ، فإن تحديد محل الاختلاف قبل الشروع في أي حوار أو جدال يعتبر أمرا بالغ الأهمية للوصول إلى المقصود بأقل مجهود .