الأم القيمية

الأم القيمية

image

اسم الكاتب: د. وفاء بنت عبدالله الزعاقي

عن الكاتب: أستاذ التفسير المشارك بقسم الدراسات القرآنية جامعة الملك سعود




تعد الأمومة أعظم وظيفة تقوم بها المرأة في حياتها لما خصها الله تعالى به من خصائص عضوية ونفسية وعقلية  وحباها من ملكات فطرية تهيئها لتكون المحضن الأهم والأول لصناعة الإنسان، يدل على هذا الخطاب الموجه إلى أم موسى عليه السلام عندما كلفت بإلقاءه في اليم ولم يكلف الأب أو غيره رغم جلالة التكليف عليها، فهي التي احتضنته وأرضعته وتابعته (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)[القصص: 10، 13] وإن كان المربي الحقيقي والصانع هو الله تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه: 39] لكن الأم هي السبب الطبيعي الذي سنه الله تعالى في هذا الوجود لنشأة الإنسان وصناعته والله هو المربي والهادي والموفق إلى سواء السبيل. 

ومادامت المرأة قد أنيط بها هذه المهمة العظيمة وخصت بتلك المكرمة الجليلة وتصدرت لهذا الدور السامي كان لابد لها أن تعرف المنطلقات التي تنطلق منها لأداء تلك المهمة لأنها ستسأل عنها وتحاسب على الوفاء بها (فالمرأة راعية ومسؤولة عن رعيتها) فما هي تلك المنطلقات وما طبيعتها؟ هي أربعة منطلقات ألخصها في الآتي:

المنطلق الأول: إن تكليف الأم بالتربية فريضة فرضت عليها  وهي جزء من الأمانة التي تحملتها عندما عرض الله الأمانة على الإنسان فقبل التحمل فكان مسؤولا مسؤولية تقتضي المحاسبة، والتفريط في ذلك يوقع الأم في الظلم والجهل كما قال تعالى: (إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب:72)  

المنطلق الثاني: إن بناء الإنسان يعني تأسيسه على قواعد قيمية راسخة ثابتة قادرة على أن تنهض به ليبلغ الغاية التي لأجلها كرم الله تعالى الإنسان على سائر الخلق وسخر له الكون من حوله، فالإنسانية معنى عظيم لا يبنى إلا على قواعد القيم المستمدة من خالق الإنسان ومبدعه.

المنطلق الثالث: إن الإنسان يتعذر تقويمه وتنمية فطرته التي فطره الله عليها إلا من خلال منهج قويم واضح تتكامل فيه تلبية حاجات الإنسان الفطرية والطبيعية، مع متطلبات الأخذ بذلك المنهج والتمسك به (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) [الإسراء: 9]

المنطلق الرابع: إن بناء الإنسان يعني تنمية فطرته التي خلقه الله تعالى عليها وفق ما يريده الخالق عزوجل والحذر من الحيد عن تلك الفطرة وما يتعلق بها فــــ(ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ، ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآيَةَ.)ـ فإذا نمت الفطرة استقام للإنسان جسده وعقله وروحه ونفسه.

فهذا المنطلقات متى ما ترسخت في قلب المرأة وعقلها عن طريق العلم والتعلم فكانت معيارا تحتكم إليه في تحديد معالم تربية أبناءها فإن ذلك سيحقق لها في مسيرتها الطويلة ما يلي:

.1 مراجعة النية في القصد من وجود الأبناء فترتقي بنيتها عن طلب الأبناء للزينة وجمال الحياة وحظوظ النفس إلى طلب الأبناء لشرف المقصد والتعبد لله وتقديم سهم في عمارة الأرض ونشر الخير راجية ما عند الله كما نلحظ في قول أم مريم عليها السلام: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [آل عمران: 35] وهذا ما يعزز لدى الأم قيمة الخير وحب السلام والحرص عليه في جميع ممارساتها مع أبنائها لينشأ الابن صالحا في نفسه محبا للخير ناشرا له متعاملا به دفعا للشر مبتعدا عنه، مما يجعله يتمتع بصحة نفسية وسلامة قلبية واتزان سلوكي.

.2 مراجعة منظومة القيم لدى الأم في مجالاتها الإنسانية فتعالج ما لديها من قصور أو تقصير قيمي وتنمي ما لديها من قيم وفق الميزان الشرعي في تقويم السلوك الظاهر والباطن مستشعرة حاجتها للهداية والتوفيق والبصيرة والعون من الله تعالى حتى تكون قدوة صالحة لأبناءها وإماما يأتمون به إذ إن  كل مسلك تسلكه الأم فإن أبناءها يتشربونه ويتأثرون به لاسيما في مرحلة الطفولة حيث يكون العقل والقلب مهيأً لاستقبال ما يغرس في نفوسهم بوعي منهم وبدون وعي (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74، 75])

.3 الوعي بأهمية القيم كمرتكز أساسي لبناء الإنسان إذ إن الإنسان لا يرتقي إلا بقيمه التي تشكل هويته، والتعامل مع القيم وفق رؤية تكاملية بين سعة مفهوم القيمة وبين تغذية جوانب الشخصية بتلك القيمة، فقيمة الجمال _على سبيل المثال _ لا تنظر الأم إليها من زاوية الاغترار بزينة الحياة الدنيا أو من زاوية يتشوه فيها معنى الجمال، بل الجمال عندها قيمه متواجدة في جميع نواحي الشخصية؛ ففي الجسد يظهر الجمال في عنايتها بالنظافة والطهارة وأخذ الزينة حسب موقفها والعناية بالتثقيف الصحي وفي كل ما يحفظ على الجسد صحته وجماله وإشراقه، وفي النفس يظهر الجمال في وجود معاني الخلق الحسن كالرحمة والإحسان لخلق الله تعالى عامة وللمؤمنين خاصة، والبعد عن الأخلاق السيئة والمشاعر القبيحة  المدنسة للنفس، وفي العقل يظهر معنى الجمال في حرصها على تغذيته عقول أبنائها بالعلم النافع وممارسة التفكير الواعي المبدع البناء والاشتراك في البرامج المعينة على ذلك والبعد عن التفكير السلبي الفاشل، أما جمال الروح فالأم تحرص على استقرار أركان الإيمان في قلوبهم وتراه في سلوكهم لتحيا أرواحهم مشرقة بالتوحيد وتحقيق معناها. وهكذا تمضي في نظرتها الشمولية للقيم فلا تُقْصر وجود القيمة في جزئية محددة أو تجتثها من منظومتها البنائية المتكاملة بل تتعامل معها في نسق واحد حتى تخرج شخصية متكاملة في جوانبها الإنسانية. 

.4 الاعتزاز بما تنجزه الأم من تخريج أمة صالحة يفاخر بها نبيها الأمم يوم القيامة، إذ إن التربية القيمية الراسخة المستمدة من هدي الكتاب والسنة الوسيلة الأنجع لنهضة المجتمع وتقدمه بين الأمم وتعزيز أمنه واستقراره وتماسكه. 


هذا والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.







  1. rمقال جميل ونحن بحاجه لمثل هذا الطرح الذي يركز على الدور الحقيقي والأساسي للمرأه والذي يكاد أن يكون مغيبا في ظل ماتواجهه النساء من كل مايجذبهن الى خارج دائرة أسرتها ودورها كأم وزوجه ومربيه داخل بيتهاوالله المستعان .وشكرا ل د/وفاء على هذا الاختيار للموضوع .

  2. rماشاء الله ممتازة الله يوفقك ويسعدك






تواصل معنا