تسعى الأمم اليوم و تتسابق نحو تحقيق أعلى مستويات الجودة والإتقان في منتجاتها و خدماتها الوطنية فنحن في سوقعالمية مفتوحة لا بقاء فيها إلا للأفضل و الأجود ، فالعولمة فرضت ظهور مفهوم العالمية و هو ما نتج عنه ظهور منظمات عملاقةعالمية المستوى يصعب على المنظمات التقليدية منافستها في ظل محدودية الإمكانيات و عدم القدرة على المواكبة السريعةللتطورات التقنية و الإنتاجية و التسويقية.
و هنا تظهر أهمية الأفراد العاملين في المنظمة و أهمية غرس القيم الأخلاقية و المؤسسية اللازمة فيهم؛ لتمكين المنظماتبمختلف أنواعها و في كل قطاعات المجتمع لتحقيق الجودة و الوصول إلى مستويات متقدمة في سلم التميز المؤسسي والعالمي.
و لا يختلف اثنان على أن معظم -إن لم يكن كل - القيم الأخلاقية و المؤسسية تعتبر مطلبا مهما لتحقيق الجودة في المجتمع وجعلها غاية ذاتية يسعى العاملون في المنظمات للوصول إليها.
حديثي هنا عن قيمة أخلاقية واحدة ذات أهمية كبرى للأفراد و كذلك قيمتين من القيم المؤسسية المهمة لتحقيق الجودة في المنظمات ,إن القيمة و الصفة الأخلاقية التي أرى أهميتها و ارتباطها الوثيق بتحقيق الجودة هي " الأمانة "
قال تعالى ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَاالْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) فالجودة في أبسط تعاريفها: القيام بالعمل الصحيح بالطريقة الصحيحة من أول مرة وفي كل مرة و هذا يعني أن يحرص العامل على تقديم العمل بأكمل صورة ممكنة و حسب المواصفات و الشروط المتفق عليها وبما يرضي الله أولا ثم المستفيد سواء من المنتج أو الخدمة و برقابة ذاتية من غير غش أو نقصان و هذا كله يتطلب من العاملينالتحلي بالأمانة و الصدق في العمل و قد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم( من غشنا فليس منا ) و كما هو معروف فإنالحد الأدنى لتحقيق الجودة يتمثل في مطابقة المنتج أو الخدمة للمواصفات و المقاييس المحددة و المعلنة للمستفيدين كما أنمراقبة الجودة جزء لا يتجزء من أي نظام لإدارة و تحسين الجودة في المنظمات، و عندما يتحلى العاملون بالأمانة فستكونمهمة المراقبة و الإشراف أسهل، و ربما تصرف هذه الجهود و الموارد لتطوير العمل و زيادة الإنتاجية و هناك مقولة مشهورةلعالم الإدارة و الصناعة الأمريكي هنري فورد يقول فيها: ( تتحقق الجودة إذا قام العاملون بالعمل الصحيح دون أن يراقبهم أحد ) و في ديننا الإسلامي الحنيف يعرف هذا بالإحسان و هو مرتبة عالية من الإيمان و العبادة تتمثل في( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، و هذا ينطبق على العمل الشريف الصالح النافع للعباد و البلاد فهو عبادة و قربة إلى الله تعالى.
أما القيمة المؤسسية الأولى التي أرغب في الإشارة إليها في هذا المقال فهي قيمة ( السعي نحو الإتقان ) و على الرغم من أنكثيرًا من المنظمات تضع الإتقان مفردًا كقيمة مؤسسية ضمن توجهاتها و خططها الاستراتيجية إلا أنني أفضل أن يقرن بهاالسعي؛ نظرًا لأن الإتقان هو غاية قصوى و مرحلة عليا في رحلة الجودة تعني الكمال، و عدم النقصان، و الخلو التام منالعيوب، و الأخطاء، و هو أمر يعجز البشر عنه، و أمر عظيم تفرد به الله الخالق عز و جل، فقد امتدح الله عز و جل نفسه فيمحكم التنزيل فقال تعالى ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) كما حثنا ديننا على إتقان العمل و تجويده و في الحديثالشريف قال قدوتنا و معلمنا محمد صلى الله عليه وسلم( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) فتجويد العمل والسعي لإتقانه واجب ديني و هو مطلب وطني مهم للنهوض بالأمم و تقدمها الاقتصادي و قدرتها على المنافسة في السوقالعالمية.
نحن في رحلة الجودة نسعى إلى الإتقان و أن تخلو المنتجات و الخدمات من العيوب و الأخطاء قدر الإمكان و لذا فإن أعلى مستويات الجودة التي يمكن أن تحققها المنظمة ما يعرف اليوم ب (٦ سيجما) و هو رمز أو قيمة إحصائية تعني :وجود 3،4 منتجات معيبة في كل مليون منتج.
و يمكن القول: إن الإتقان ذروة سنام الجودة، قد يتحقق لفترات أو دورات إنتاج محددة و ليس دائما، و لكن هذه القيمة المؤسسية العظيمة ستغرس لدى قيادة المنظمات و العاملين بها الشغف،و الطموح و السعي المتواصل نحو قمم التميز و الريادة و العالمية.
أما القيمة المؤسسية الثانية في مقالي هذا فهي قيمة العمل الجماعي و هي مطلب رئيسي للنجاح في مشاريع و برامج الجودة.
و لا أعرف من خلال أعوام طويلة قضيتها في رحاب الجودة و عالمها الفسيح أن هناك برنامجًا ناجحًا و مثمرًا للجودة في أيمنظمة لا يتم من خلال فرق عمل متخصصة و متنوعة للتدقيق و التحسين و المراجعة و التقييم و التطوير ، لذا تحرص المنظماتالمتميزة على غرس مفهوم العمل الجماعي كقيمة مؤسسية لدى العاملين بها، و تقدم لهم دورات تدريبية في مجال بناء و تطويرفرق العمل ، و للأسف و من خلال خبرتي و مشاركتي في عددٍ كبير من مشاريع الجودة المحلية و الإقليمية فإن أحد أكثرأسباب فشل مشاريع الجودة هو ضعف قيمة العمل الجماعي، و عدم اختيار و بناء فرق العمل المناسبة، و المؤهلة لهذهالمشاريع ، كما أنه -و للأسف- يوجد ضعف واضح في قدرتنا كمجتمعات و عاملين في المنظمات للعمل كفريق عمل واحد ،فالاتحاد قوة و عندما يذوب الفرد في الجماعة و تتوحد الجهود نحو الهدف، يصبح النجاح حليفنا ، و ديننا الإسلامي الحنيفهو دين الجماعة و قد لا يتسع المجال هنا للتطرق إلى الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الكثيرة التي تأمرنا و تحثنا علىالعمل الجماعي؛لذا وجب علينا جميعا -و خصوصا المعلمين و المعلمات -غرس قيمة العمل الجماعي لدى الأجيال الناشئة وتدريبهم على إنجاز أعمالهم و واجباتهم الدراسية كفرق عمل من أجل أن يساهموا في دفع مسيرة منظماتهم و بلادهم نحوالتميز و الريادة و العالمية.
و الله الموفق.